فارس العدني
شهد الجنوب خلال العقد الأخير تحولات عميقة في وعيه السياسي وفي نظرته إلى مفهوم الوحدة كما طُبّق على أرض الواقع. هذه التحولات لم تكن نتاج لحظة انفعالية أو خطاب تعبوي، بل جاءت نتيجة تجربة طويلة ومعقدة، تداخلت فيها الحرب، وتعثر مؤسسات الدولة، واختلال الشراكة السياسية، وغياب الضمانات الفعلية للمساواة والعدالة.
في هذا السياق، لم يعد خطاب الوحدة يحظى بالحضور الشعبي الذي كان عليه في مراحل سابقة. ويُلاحظ أن التمسك به بات أقرب إلى مواقف فردية تعبّر عن قناعات شخصية أكثر من كونها تيارًا سياسيًا منظمًا أو رؤية جامعة قادرة على استقطاب الرأي العام الجنوبي. وهو تحول يعكس تغيرًا بنيويًا في المزاج العام، لا مجرد اختلاف سياسي عابر.
الواقع أن الجنوبيين أعادوا تقييم تجربتهم استنادًا إلى نتائج ملموسة، لا إلى شعارات أو نوايا معلنة. وقد خلص كثيرون إلى أن الإشكال لم يكن في المبدأ النظري للوحدة، بقدر ما كان في طريقة إدارتها، وفي غياب الشراكة المتكافئة، وفي تحوّل الدولة إلى إطار شكلي لا يحقق الأمن ولا التنمية ولا التمثيل العادل.
من هنا، فإن أي نقاش مستقبلي حول شكل الدولة أو طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب، لن يكون ممكنًا دون الاعتراف بهذه التحولات، والتعامل معها بجدية ومسؤولية. فاستقرار المنطقة، وبناء السلام المستدام، يتطلبان مقاربة واقعية تُنصت لإرادة المجتمعات، وتحترم تجاربها، وتبحث عن حلول سياسية عادلة قابلة للحياة.
إن تجاهل هذه الحقائق أو التقليل من شأنها لن يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة القائمة، بينما يظل الحوار الصادق، القائم على الاعتراف المتبادل والخيارات الواضحة، هو المدخل الوحيد لأي تسوية مستقبلية قابلة للاستمرار.


