القمندان.. ذاكرة الأحياء
.

                    كتب/ سمير الوهابي*

 

   بعد أن جاب القمندان في قصيدته «إذا رأيت على. د شمسان في عدن» جبال المدينة وبحارها، يعود في القسم التالي إلى الروح العدنية الحقيقية — الناس، الأحياء، الأصدقاء، والوجوه التي تصنع معنى الوطن. لم تعد عدن عنده مَشهَدًا طبيعيًا فقط، بل نسيجًا إنسانيًا متكاملًا يعيش في ذاكرته ووجدانه. > إذا سرى من هوى حُقّاتِ في عَدَنِ أحيا عليلُ الهوى شجوي وذكّرني أهلَ القطيع وأهلَ الزعفرانِ وفي حافةْ حُسينٍ من أهلِ الفضلِ والفِطَنِ أحبّتي وأصْحابي فذكرهُمُ في يقظتي لا يُفارِقني ولا وسني أبعثْ مزاحمَ حيَّ العيدروس وصافِحْ في الخسافِ وعانقْ ثمَّ واحتضنْ عدن التي تسكن القلوب لا الجغرافيا هنا يكتب القمندان بحنينٍ يشبه الدموع. حين تهبّ نسائم “حقّات” العدنية، لا تثير فيه مجرد شوقٍ إلى مكان، بل توقظ ذاكرة الناس الذين جعلوا من عدن مدرسةً في الكرم والعلم والذوق. إنه يذكر الأحياء لا كأسماء أزقة، بل كرموزٍ للحياة العدنية المتنوعة: القطيع والزعفران أحياء العلم والصفاء. حافة حسين منارة الفضل والفطنة. الخساف والعيدروس رمزان للتدين والروحانية والصفاء. هذه الخريطة العاطفية ليست خريطة شوارع، بل خريطة مجتمعٍ راقٍ، متآلفٍ، يعرف معنى الجيرة والاحترام. فيها الغني والفقير، الحضرمي والصومالي والهندي واليمني، كلهم يذوبون في نسيجٍ إنساني واحد اسمه عدن.

 المدينة التي غنّت للناس قبل أن تغنّي للبحر يُكمل القمندان في قصيدته بفيض من المحبة: > بيضاً غطارفةً سُمْراً جحاجِحةً شنِّفْ بذكرِهم أذني وحدثني وغنّ لي (مرحباً بالهاشمي) فما (يا ساري البرق) إن غنيتَ يطربني. في هذه الأبيات يُظهر الشاعر انفتاح عدن وتنوعها. فهي مدينةٌ جمعت كل الألوان والأعراق، من البيض والسُمر، من السادة والعمال، من الفقهاء والبحّارة. لقد فهم القمندان أن جمال عدن في اختلافها الذي يوحّدها، وفي نغمة الغناء العدني التي تتجاوز كل حواجز الطبقة والقبيلة والمذهب.

   حين يطلب من مغنيه أن ينشده “مرحبًا بالهاشمي”، فإنه لا يتغنّى بنَسب، بل بقيم النبل والصفاء والولاء للحق.

   وحين يذكر “يا ساري البرق” فهو لا يحنّ لمطرٍ فحسب، بل يستدعي زمنًا كانت فيه عدن تغنّي بدل أن تتناحر.     عدن اليوم..حين غابت المروءة من الحواري آهٍ يا عدن، كم تغيّر وجهك الجميل! الأحياء التي كانت تُنجب الفضلاء وأصحاب الفطنة، صارت اليوم شاهدةً على الانقسام والفوضى. القطيع لم تعد تلك المدرسة التي تُخرّج المثقفين، والزعفران فقد عبيره حين غاب التعليم والأدب.

   حتى “حافة حسين” التي كانت ملتقى الصالحين، غلب عليها الصمت والهمّ.

   لقد تحولت عدن — التي كانت مدينة الإنسان — إلى مدينةٍ مرهقةٍ بالصراخ والفقر والعزلة.

   ضاعت ملامح التآلف بين الناس، وتسللت الأنانية والعنف إلى الشوارع التي كانت تعزف السلام.

   أصبحت الفتنة تسبق الكلمة، والمصلحة تطغى على المروءة. 

   رسالة القمندان من الماضي إلى المستقبل من خلال حنينه إلى الأحياء والناس، لم يكن القمندان يسترجع الماضي لمجرد البكاء عليه، بل كان ينبّه الأجيال القادمة إلى مسؤوليتها الأخلاقية.

  فالمجد لا يُبنى بالحجارة، بل بالقلب النظيف والعقل الواعي. عدن كانت عظيمة لأن أهلها كانوا عظماء، وحين نُعيد إنسان عدن إلى مكانه، ستعود المدينة تلقائيًا إلى مجدها.

             * إعلامي وعضو مجلس                  محلي في مديرية التواهي 

متعلقات